أصح البشائر في مبعث سيد الأوائل والأواخر/للشيخ محمد المجذوب كلية الدعوة وأصول الدين
ثم تأتي الرواية الأخرى عن رحلته صلى الله عليه وسلم بتجارة الطاهرة – خديجة - إلى الشام، حيث أتيح لفتاها ميسرة أن يرى ويسمع من خلال محمد صلى الله عليه وسلم ما ملأ قلبه إعجابا وتقديرا.
ولا تقف الرواية عند هذا الحد، بل تضم إليه أيضا بعض المشاهد الخارقة التي أحاطت بالرفيق الكريم أثناء الرحلة، من تظليل الغمامة ورعاية الملكي له.. وإخبار راهب نصراني لمسيرة بما يفيد أن رفيقه مرشح لمقام النبوة3.. حتى إذا وصل ركبهما مكة ذهب مسيرة يحدث مولاته خديجة بمرتئياته ومسموعا ته، وبخاصة كلمة الراهب، فلم تتمالك أن مضت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تذكر له حديث ميسرة، فما كان من هذا إلا أن أكد لها توقعات الراهب قائلا: "لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة4.
وتمضي الرواية فتعرض لنا اهتمام ورقة عقيب ذلك بخبر محمد صلى الله عليه وسلم حتى ليترجم أشواقه إلى يوم إعلانه دعوته بأبيات نثبت فيما يلي بعضها:
لججت، وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيج
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أكثركم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
__________
1 انظر سيرة ابن هشام ص 183 ج 1 ط الحلبي و (والبداية والنهاية) ص 283 -284 ج 2 ط المعارف بيروت 1977.
2 ابن كثير ج 2 ص 284 –285.
3 ابن كثير ج 2 ص 284 –285.
4 ابن هشام ج 1 ط الحلبي ص 177 -191 وابن كثير ج 2 ص 293-296. (1/275)
ويتبع هذه الرواية أخبار أخرى عن كهنة العرب، وتشير إلى مبعث النبي الموعود، مرة بالرمز إليه، وأخرى بالتصريح عن اسمه.. وحسبنا منها جميعا معالجة الخبرين الأولين بالممكن من التدقيق في قيمتهما العلمية ومدى صلتهما بالواقع.
* ونبدأ بخبر بحيرا. فمع اختلاف مؤرخي السيرة في شخصيته ونسبته وملته يكادون يتفقون على كونه من أحبار أهل الكتاب، قد أقام في صومعته تلك يعبد الله في معزل عن مفاسد عصره. وحين يعرضون ليوم لقائه محمدا صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب يكادون يتفقون كذلك علة تنويهه بشأنه، بعد تحققه من صفاته التي يجدها في بعض آثار الأنبياء السابقين.. ويزيد بعضهم أنه على مرأى ومسمع من أشياخ الركب (أخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا سيد العالمين" وفي رواية الترمذي والبيهقي قال: "هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين.." ولما سأله هؤلاء عن مستند علمه عنه أجاب: "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي.. وإني أعرفه بخاتم النبوة بأسفل من غضروف في كتفه.." ولم يكتف بالخبر فأراهم الشجرة وهي تفيء بظلها عليه.. ثم مازال بعمه حتى رده إلى مكة حماية له من الروم –وفي رواية من يهود- وتختم هذه الرواية بأن أبا بكر بعث معه بلالا وزوده الراهب بالكعك والزيت1.
والذي يهمنا من حديث بحيرا هو إخباره بمستقبل محمد صلى الله عليه وسلم من حيث اصطفاء الله إياه لرسالته الخاتمة، وتوكيده ذلك بسجود الشجر والحجر له.. فهاهنا يتوقف القارئ المفكر ليتساءل عن نصيب القصة من الواقع، وبخاصة أن بحيرا لم يلق بالخبر همسا في مسمع واحد بعينعه بل أعلنه صراحة على ملأ من أفراد الركب، الذين طالبه أشياخهم بالبرهان على مدّعاه..
وأنت حين تواجه هذا الخبر لابد لك من التساؤل ((كيف ينسى محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النبأ فيما بعد، وما بال أشياخ قريش ينسونه أيضا، فلا يتذكرونه يوم يطله عليهم بدعوة ربه؟. بل يقابلونها بالجحود والعناد، الذي يقطع بأن المعارضين قد فوجئوا
__________
1 انظر البداية والنهاية: 284 و 285 ج 5. وسنن الترمذي ج 5 250 -251 ط السلفي والدلائل للبيهقي ج 1 307.
(1/276)
بها، كما فوجئ بها محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، الذي ناء تحت ثقله أول الأمر، ثم لم يطمئن قلبه إليها إلا بعد أن ثبته الله بلطفه، وبما يسر له من عون الزوج العظيمة خديجة.
ونظرة أخيرة إلى خاتمة القصة تكشف لك واحدة أخرى من المشكلات التي لا تجد لها حلا. إذ المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في الثانية عشرة، يكبر صديقه أبا بكر بما يقارب الثلاث من السنوات، إذ كان ما بين التاسعة والعاشرة، ولم تذكر له السيرة أي صلة ببلال، الذي كان في رق أمية بن خلف حتى يوم انتقاله إلى الملك الصديق في أوائل سني البعثة.. فكيف كبر الصديق حتى قام بمسئولية الحماية لمحمد؟.. وكيف أفلت بلال من رق أمية ودخل سلطان الصديق؟.. وكيف ارتفعت سنه بغتة صار قادرا على القيام بهذه المهمة؟.. ومن أين جاء اسم الكعك إلى القصة وهو لفظ لعله لم يتطرق إلى العربية إلا بعد الفتح الإسلامي؟.
وهذه الحيرة التي تراودك بازاء القصة قد سبقنا إليها عدد من رجال الحديث الذين لم يستطيعون ردها تهيبا لسنده، ولكنهم لم يكتموا رأيهم بأن من حملها إنما حملها لغرابتها مع التوكيد على انفراد راويها الأخير بها، حتى أن ابن إسحاق نفسه لم يستطع عرضها إلا في صيغة ((الزعم التي تنم عن منتهى الشك)) 1 وكذلك فعل ابن كثير حين وجه إليها نقدا يوشك أن يكون ردا للرواية بأسرها، ومثله صنع الزرقاني في شرحه على المواهب إذ نقل تضعيف الذهبي للخبر2 كما فعل البيهقي بقوله نقلا عن أحدهم: "ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد"3.
وننتقل الآن إلى القسم الثاني:
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من سنيه، وكان رفيقه في هذه الرحلة ميسرة غلامها، ولابد أنها استغرقت طويلا من الزمن، وبذلك أتيح لمسيرة وهو العاقل الفهم –كما يلوح من خلال الرواية- أن يشهد من خلائق محمد وسمو تصرفاته أثنائذ ما يدفعه إلى الحديث عنهما لكل من يتصل به وبخاصة مولاته خديجة، التي لابد أنها أصغت إلى روايته تلك بإعجاب الكريم الفاضل يسمع أنباء إنسان
__________
1 ابن كثير ج 2 285. وابن هشام ج 1 180 -183 ط الحلبي.
2 ابن كثير ج 2 285، وابن هشام ج 1 180 -183 ط الحلبي.
3 انظر هامش ص 82 من كتاب (الفصول في اختصار سيرة الرسول) ط دار القلم بيروت.
(1/277)
بلغ القمة في عالم الفضائل، حتى ليدفعها ذلك الإعجاب إلى التفكير في الاقتران به. وسواء توسلت إلى هذه الأمنية الغالية بعرض أمرها عليه مباشرة –كرواية ابن إسحاق1- أو بوساطة المرأة الحكيمة نفيسة بنت علية2 أو عن طريق أخت لخديجة في إحدى الروايات، فقد أتم الله ذلك القران السعيد الذي عم ببركته لا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل العالم الإسلامي بأجمعه حتى تقوم الساعة.
وإلى هنا والخبر طبيعي ومعقول، ولكن التوقف إنما يتأتى عند بقيته، حيث نرى خديجة رضي الله عنها مشغولة الذهن بموضوع الغمامة والملائكة وخبر النبوة، حتى لا تتمالك أن تقصد إلى ذلك الرجل الحكيم العليم ورقة بن نوفل لتتعرف تأويل تلك الظواهر، فتسمع منه البشرى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك باعثها الفعال على طلب الزواج منه.
وبقليل من التأمل في مسيرة هذا الجزء من الرواية يتضح لك اضطرابه هو الآخر ذلك أن خبرا كهذه تسمعه خديجة من ميسرة ثم من ورقة من حقه أن يصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم عقب زواجه أو خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الوحي، وهذا ما ترفضه الوقائع، التي تؤكد أن محمدا وخديجة كليهما كانا سواء في خلو ذهنيهما من أمر الوحي، إذ فاجأة على غير انتظار، وفاجأها به في جو من الورع المهيب، فلم تجد ما تقوله له سوى التذكير بفضائله التي لا يقاربها الشيطان.. وحسبنا دليلا حاسما على خلو ذهنه صلى الله عليه وسلم من موضوع النبوة كليا قول ربه له تبارك اسمه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ ... } (الشورى آية 52) وهو توكيد حازم لما سبق من قوله الآخر سبحانه في سورة الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ففي كلتا الآيتين تصوير عميق الدلالة على الوضع النفسي الذي كان يلابس محمدا صلى الله عليه وسلم قبل الوحي، فهو في حيرة لا يعرف السبيل إلى جلائها، فلا فكرة لديه عن رسالات الله، ولا يعرف من الإيمان سوى التوحيد الفطري الذي ينطق به كل شيء في هذا الكون، إلى أن فاجأه الزائر العظيم في أحضان حراء..
ومن هذا كله نجد أنفسنا تلقاء أمرين: أحدهما الشك في خبر الراهب النصراني عن الغمام والملائكة والشجرة التي ما نزل تحتها قط إلا نبي3 والثاني أن يكون اتصال
__________
1 راجع الدلائل ص 309 السلفية.
2 ابن هشام ط الحلبي ص 189 ج.1.
3 ابن هشام ط دار الفكر ج1 205 -في الهامش- وفي (المنتخب من السنة) تذكر باسم نفسية.
(1/278)
خديجة بورقة لاستطلاع رأيه لم يأت عقيب عودته صلى الله عليه وسلم ومسيرة من الشام، بل الأحرى أن يكون حصوله على إثر نزول الوحي مباشرة، يوم عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف من الرعب، فذهبت به إلى ابن عمها الذي اطمأن وبشره بالنبوة1.
وعلى هذا التقدير يكون ثم تقديم وتأخير في أجزاء الحادث المتصل ببشرى ورقة.. ولعلنا لو لأعدنا ترتيب هذه الأجزاء وفق منطق الحوادث لوجدنا أنفسنا تلقاء الصورة التالية أو قريبا منها:
يعود رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إثر اللحظة الهائلة التي قدر فيها لقاء جبريل (عليه السلام) إلى خديجة يرتجف من الروع، فتتلقاه بأحسن ما تملك من كريم الرعاية وجميل البيان، حتى إذا اطمأن إلى هدوئه، أخذت سبيلها في زورة عجلي إلى ابن عمها ورقة، أعلم أهل مكة بأمر الدين، فما إن يسمع حديثها عن تلك المفاجأة حتى يهزه الوجد، ويأخذ في التسبيح: قدوس قدوس.. ثم يصرح بالبشرى: "والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا جديجة لقد جاءه الناموس الأكبر –جبريل- وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت2".
وهكذا تعود خديجة (رضي الله عنها) إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) بكلمة ورقة تشد بها عزيمته، ولتقول له في ثقة عالية وبألفاظ ورقة نفسها: "والذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة3". وطلبا للمزيد من التثبيت ترى أن يسمع محمد تلك البشرى الشافية من فم صاحبها مباشرة، ولذلك (انطلقت بمحمد حتى أتت ورقة فقالت له: "يا ابن عم اسمع من ابن أخيك".. فأخبره (صلى الله عليه وسلم) خبر ما رأى فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى4". ومن هنا جعلت الأشواق تتفاعل في صدر ورقة إلى اليوم الذي يؤمر فيه النبي الخاتم بتبليغ رسالة ربه، فلا يتمالك أن يترجمها بتلك الأبيات التي أثبتناها في ما تقدم. ثم يلقي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يطوف بالبيت فيستعيد خبره، ولعله يستوضحه عما جدّ له، فيقص عليه ما رأى وما سمع، فيكرر ورقة ما قاله من قبل مؤكدا بشراه بالقسم: "والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة"5.
__________
1 ابن هشام ط الحلبي ج 1 ص 188، وعبارة ابن كثير خالية من الظرف ((قط)) ج 2 ص 294، ويفسر السهيلي عبارة الراهب بقصده إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وحده وهو بعيد، وذكر الظرف المستغرق للماضي عند ابن هشام يفيد القطع بأنه لم يجلس تحت هذه الشجرة قبل محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا النبيون.
2 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1، وانظر ابن كثير ج 3 ص 3. والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
3 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر ابن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج1 /73 /74.
4 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر بن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
5 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر بن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
(1/279)
ومما يؤيد هذا الاتجاه في ترتيب أجزاء الخبر رواية ابن كثير له حيث يعرض نبأ عودته (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة وهو يقول: "زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فأخبر خديجة بأمره، وقال: "لقد خشيت على نفسي".. فجعلت خديجة تسري عنه بقولها: "كلا.. والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق.." ويعقب ابن كثير ذلك بقوله: "فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة.." إلى نهاية الخبر.
فأنت ترى خلو رواية ابن كثير من هذا القول المنسوب في السيرة إلى خديجة "إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" وتؤكد رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي.
ورب متسائل يقول: ومن أين جاء خبر تظليل الملائكة والغمام وسجود الحجر والشجر لمحمد وانصهارها عليه؟!.. فأقرب جواب على ذلك أن يكون بعض نساخ السيرة، وربما كان من مسلمة أهل الكتاب، قد آسفه أن يقرأ في أسفارهم مثل تلك العجائب تواكب بعثة بعض الأنبياء، ولا يرى مثل ذلك في سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي أكرمه الله بإمامتهم جميعا، فلم ير بأسا في إضافة مثلها إلى بعض أخباره.. بل لا أستغرب أن يكون من هذه الإضافات ذلك الخبر القائل إن يهوديا أطل من أطمه في يثرب ليصرخ في قومه: "يا معشر يهود.. طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به1 وذلك مضاهات لما تقوله بعض مكتوبات النصارى من أن رجلا من فارس قد عرفوا بميلاد المسيح (عليه السلام) من نجم معين فجعلوا يتتبعونه حتى انتهوا إلى مقره في بيت لحم2.
وأنا إذ أعرض هذه التصورات لا أنسى أن بعض هذه الأخبار مكتوب في بعض المؤلفات المقدرة عند جمهور المسلمين، ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن لمؤلفيها رأيا معلوما في التفريق بين التاريخ والشريعة، فهم إذا رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تشددوا في التحقيق، وإذا عرضوا للأخبار التاريخية مالوا إلى التساهل. وليتهم لم يفعلوا ذلك لأن التاريخ في ضوء الإسلام معرض العبر التي يجب على المسلم تطبيقها في حياته، وإنما يصلح التطبيق إذا صحت الوقائع، وكل تحريف في عرضها إنما هو مضيعة أو مفسدة للعبرة نفسها..
__________
1 ابن هشام ج 1 /159 ط الحلبي، وقريب من ذلك رواية الحاكم في المستدرك عن يهودي فعل هذا بعض هذا في مكة أيضا ج 2 /601 –602.
2 راجع الفصل الثاني من إنجيل متى.
(1/280)
* ونعود الآن إلى قصيدة ورقة ذات الصلة الوثيقة بهذا الموضوع، فهي من الناحية الفنية أشبه صياغة بأساليب الشعر المكي أثناء البعثة، الذي قلما يتوافر له الألق الجذاب، الذي نعرفه في أساليب الفحول من نجد ويثرب.. إنه أقرب ما يكون إلى نظم العلماء منه إلى غناء الشعراء ... ولذلك لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى ورقة الحبر العالم صحيحة لما تحمله من التركيز على الجانب الفكري، الذي يصور تطلعه إلى موعد الجهر بدعوة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ليقف بجانبه يشاطره ما سيتحمله من العناء والبلاء في سبيل الله.. ولا نرى حاجة إلى استعادتها مرة ثانية هنا، ولكن ثمة بعض المؤشرات التي لا مندوحة من التوقف عندها قليلا:
يقول ورقة (رحمه الله) :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
فهو في هذه المقدمة يعبر عن تشوقه لأخبار محمد (صلى الله عليه وسلم) التي حركت سواكن الأشجان في صدره من أوضاع الناس الغارقين حوله في حلكات الظلام.. فهو يتطلع بلهفة إلى الموعد المنتظر.. وهي مقدمة واضحة الدلالة، على الرغم مما فيها من جفاف العبارة وتكلف الشاعرية.. ولكن هذا الانسجام لا يلبث أن يتقلقل عندما نقرأ البيت الرائع:
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
والمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لمجرد جلوسه تحت الشجرة ... وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دسا، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته، ففي (يعوجا) محاولة لقصر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة، فضلا عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غربة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة:
بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيجا
(1/281)
فأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ... ) هو (وصف) في صدر البيت الثاني، وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت ... فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول.
ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطلق البحث، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ على الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السابقة لظهوره.
فأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الفضائل فقد أوضحناه مؤيدا بكل ما نملك من الحجج والبيانات، وقد بقى أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي إليه العقل والقلب من وسائل الإثبات.
وقبل التعرض لهذه الوسائل يحسن بنا أن نذكر القارئ بما لا يحسن أن يغفله من المعلومات الأولية، وهي أن بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) كانت ولا تزال أعظم أحداث التاريخ البشري قاطبة، لأن الإنسانية بها انتقلت من صحراء الضياع الذي يصوره قول الله تبارك اسمه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... } (الروم الآية 41) . ثم قول رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) في وصف الوضع البشري أثناء بعثته: " ... إن الله اطلع إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"1. إلى ساحت النور فاتضحت معالم الطريق، وتحددت المسئوليات، وانكشف للأبصار ما طمسته الجاهلية من حقيقة الإنسان وتبعاته، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة..
وحدث له مثل هذا الثقل في موازين الوجود لا يعقل أن يفاجئ الله به الجنس البشري دون أن يمهد له بما يهيئ لاستقبله الأذهان.. ولذلك لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد بالإبلاغ عن هذا المبعوث الذي يدخره سبحانه لإنقاذ سفينة الحياة من زوابع الضلال..
يقول جل شأنه في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
__________
1 من حديث طويل أخرجه مسلم.
(1/282)
وفي تفسير هذا الميثاق ينقل ابن كثير عن علي وابن عباس أن الله لم يبعث نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ويقول سبحانه في التعقيب على استغفار نبيه موسى (عليه السلام) : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف 156 و157) .
وفي هاتين الآيتين يقول ابن كثير أيضا: "وهذه صفة محمد (صلى الله عليه وسلم) في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم".
ولقد والله رأينا صفاته هذه في التوراة لا تزال قائمة على الرغم من كل التحريفات التي لحقت بها، ورأيناها في إنجيل يوحنا منقولة عن لسان عيسى (عليه السلام) يبشر فيها بمبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) ويحدد صفته بالاسم، على الرغم من تلاعبهم بتغييره في الترجمة العربية، إذ جعلوه (المعزّي) بدل (أحمد) ويأبى الله إلا يفضح المزورون فيكشف الحقيقة بلسان المستشرق الإيطالي الدكتور ((نلينو)) الذي صرح للشيخ عبد الوهاب النجار بأن اسم المبشر به باليونانية وهو (الفارقليطس) يعني بالعربية الكثير الحمد.. بل لقد كشفوا هم أنفسهم عن تزويرهم هذا بما كتبوه في ذيل الصحف التي حملت البشارة من إنجيل يوحنا المطبوع بالعربية، حيث يقولون بالحرف الواحد تعقيبا على كلمة المعزي (إن لفظ المعزي ليس له في المتن الأصلي شيء من معنى الحمد. ومن فسره بالمعزي فإنما تحرف عليه المعزي الذي في الترجمات العربية..) ومجرد ذكرهم هنا لفظ الحمد دليل قاطع على اختلافهم حول ترجمة اللفظ اليوناني الأصلي، وعلى أن بينهم من ذهب إلى ربطه بمعنى (الحمد) الذي يراد استبعاده بهذه الحاشية، فكان ذلك شهادة منهم على أنفسهم بالتزوير والتحريف.. وملاحظة أخرى وهي أن في الفقرة الأخيرة إشارة صريحة إلى وجود ترجمات سابقة بالعربية أثبت فيها اللفظ المشتق من الحمد بدل (المعزي) 1.. ولو هم انصفوا عقولهم وآثروا الحق لتركوا لبشارة المسيح أن تصل إلى آذان الناس وقلوبهم، لأنها إذ ذاك لن تكون إلا
__________
1 انظر الفصل 16 من إنجيل يوحنا وحاشيته في الطبعة اليسوعية. ويلاحظ في الفقرة الأخيرة من الحاشية أن ثمة زلقة قلم وضعت كلمة (المعزي) مكان (الحمد) بقول المحشي (ومن فسره بالمعزي) يريد (ومن فسره بالحمد) حسب مفهوم السياق.
(1/283)
إعلانا للحقيقة التي بلغها المسيح (عليه السلام) من قبل في قوله لبني إسرائيل: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف 6)
ولقد بلغت تلك البشريات في التوراة والإنجيل بمبعث خاتم الرسل (صلى الله عليه وسلم) حدا لم يبق معه مجال للتجاهل، حتى أصبح أولو العلم من أهل الكتاب {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة 146) . ولم يقف أمر هذه البشائر على ذوي العلم من خاصة أهل الكتاب وحدهم، بل لقد انتشرت أنباؤها في سوادهم، حتى لقد كان يهود يثرب يوعدون وثنييها من العرب بأن نبيا أطل زمانه سيتبعونه ويقاتلونهم معه فيقتلونهم قتل عاد وارم {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة 89) .
وحسبنا بهذه الشهادات الدامغة أدلة مقنعة بما أسلفناه من أن ذكر محمد (صلى الله عليه وسلم) كان محفوظا في الكتب المقدسة، وعلى ألسنة أهل العلم، الذين كانوا لا يبرحون يتوارثونه جيلا بعد جيل منذ بعث الله أول نبي وحتى تقوم الساعة.
وليست قصة سلمان (رضي الله عنه) وضربه في الأرض بحثا عن الحق وتلقيه خبر محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلاماته من أسقف عمورية، إلا واحدا من نقول الثقات بعضهم عن بعض لهذه المبشرات..
وحتى موروثات الهنود والفرس القديمة من علوم أسلافهم لم تخل من هذه المبشرات، وقد عني بالحديث عنها كثيرون من مؤرخي المسلمين كابن حزم والشهرستاني وابن تيمية ورحمة الله الدهلوي، وفي كتاب (مطالع الأنوار) لعباس محمود العقاد نماذج وفيرة لمن شاء المزيد من أخبارها. ويقول الأخ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي – الهندي - إنه معني بتأليف كتاب يحمل الكثير من بشائر الكتب الهندوسية بمحمد (صلى الله عليه وسلم) 1.
وسأختم هذا العرض بواحدة من هذه البشائر التي لا مجال للمراء في مدلولها، وقد اخترتها من الكتاب المنسوب إلى أشعياء في مجموعة العهد القديم.
في الإصحاح: 35/ من رؤى أشعياء يعرض هذا النبي صورة رائعة الوضوح والجلال للحدث العظيم الذي أطل على الدنيا ببعث محمد (صلى الله عليه وسلم) فيرينا معالم الخير الذي غمر الجزيرة العربية، والحضارة المثلى التي نشرها الإسلام، لا في الإنسان وده بل في كل شيء.
__________
1 الدكتور ضياء الرحمن من خريجي الجامعة الإسلامية وهو من مدرسيها، وقد كان هندوسيا فهداه الله إلى الإسلام.
(1/284)
فلنستمع إليه يفصل مرئياته من وراء أكثر من ألف سنة قبل بعثة ذلك المنقذ العالمي الذي اصطفاه الله رحمة للعالمين:
يقول أشعياء: "تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارا ويبتهج ابتهاجا ويرنمّ.
يدفع إليه مجد لبنان بهاء كرمل وشارون، هو يرون مجد الرب بهاء إلهنا.
شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبوتها. قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هو ذا إلهكم. الانتقام يأتي جزاء الله هو يأتي ويخلصكم.
حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر ويصير السراب أجما، والمعطشة ينابيع ماء.
في مسكن الذئاب، في مربضها دار للقصب والبَرْدِيّ.
وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم.
من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل.
لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها، بل يسلك المفديّون فيها، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح، فرح أبديّ على رؤسهم.. ابتهاج وفرح يدر كانهم، ويهرب الحزن والتنهد1".
إن أشعياء يصوغ مرئياته السعيدة هذه في أسلوب شعري يترقرق بالفرح والبهجة، فلا يتمالك أن يسكب من مشاعره على الأرض اليابسة فإذا هي تموج بمثل فرحه وبهجته.. حتى ليرى كل شيء فيها يضحك ويزهر ويغني ...
ولم كل ذلك؟ ...
لأن انقلاب خارقا قد غيّر مسيرة الحياة فاستبدلت بكآبة الشقاء والضياع هداية السماء التي ملأت الأرض بنور الله.
ولذلك يهيب بالمظلومين: أن افتحوا قلوبكم فقد جاءكم الخلاص على قدر، فلا عدوان بعد اليوم ولا بغي ولا طغيان..
__________
1 انظر أشعياء صح 35.
(1/285)
إنه انقلاب شامل يطلق المواهب كلها في جزيرة العرب، فتنشط العقول، وتتفجر منابع الحكمة على كل لسان.. وتستحيل الأرض، التي كانت حتى الأمس مرتعا للموت، جنات ترف بالأمن الذي ينعم به كل شيء من إنسان وحيوان.
يالها معجزةً أحالت مرابض الذئاب دورا للعلم فلا يكاد يرى فيها إلا القارئون والكاتبون والمعلمون!
ثم ماذا؟
ثم الحرم المقدس الذي طهره الله من كل نجس الكفر، فلا يرتاده إلا القائمون والعاكفون والركع السجود..
إليه يزحف الملبون لنداء السماء من كل حدب وصوب، ومن جوار المسجد الأقصى يفدون لتمجيد الله، الذي وهب لهم كل هذه النعم، حتى إذا قضوا حجهم، وأدّوا مناسكهم، عادوا إلى ربوعهم فرحين بما نالوا من تجلي مولاهم الحق، وقد غمرتهم السعادة بما استشعروه من مغفرته ورضوانه..
لقد قربوا الذبائح في طاعته، وأكثروا من صدقات الفداء عن كل مساءة يتوهمون أنهم أتوها، ومن أجل ذلك استحقوا أن يسميهم أشعياء (مفديي الرب) ..
ويالها بشارة من حقها أن تذكر أهل الكتاب بالعهد الذي أخذه الله عليهم أن يكونوا أول المؤمنين بالصادق الأمين. إمام النبيين، وسيد الأولين والآخرين ...
عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين..
(1/286)
تذييل:
بعد الفراغ من كتابة هذا البحث شاء الله أن أقع على خبر بحيرا في (فقه السيرة) للأستاذ محمد الغزالي وأن أقف من هناك على مناقشة المحدث الفاضل الشيخ ناصر الدين الألباني لقول المؤلف: "سواء صحت قصة بحيرا أو بطلت" ثم لقوله الآخر في شأنها: "والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لمزاعم الإنجيليين في شأن المسيح" حيث يقفي الشيخ ناصر على الفقرة الأولى بقوله: "بل هي صحيحة.." ويحتج لرأيه بأن الترمذي قد أخرج الخبر من طريق أبي موسى الأشعري وعرفه بأنه (حديث حسن) ثم نقل قول الجزري بأن "ذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ" وأردف ذلك برواية البزار عن هذه الفقرة أن الذي عاد بمحمد (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة رجل آخر أرسله معه عمه. ومن ثم عمد إلى نفي
(1/286)
الوضع عن الخبر في الفقرة الثانية محتجا لصحته بما أورده الإنجيليون من أخبار عن موسى (عليه السلام) مطابقة لمضمون القرآن.
وقد دافع الأستاذ الغزالي عن وجهته في الصفحة نفسها محتجا بتقرير أئمة من أهل الحديث، كالذهبي الذي يقول –في ميزان الاعتدال- "مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله: (وبعث معه أبو بكر بلالا) " وكالحافظ ابن حجر الذي ينقل قوله في (المواهب اللدنية) أن "رجاله ثقات وليس فيه سوى هذه النقطة، فيحتمل أن تكون مدرجة فيه، منقطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته.." وأخيرا يورد قول ابن كثير أن من غرائب هذا الحديث كونه من مرسلات الصحابة، فهل على كل تقدير مرسل.1
وقد رأيت أن ألفت نظر القارئ إلى بعض الملاحظات حول هذا الحوار:
أ_ إن عمدة القائلين بصحة هذا الخبر هي ثقتهم بسنده فهو عند صيارفة الحديث من الضرب الموثوق دون ريب. ولا غبار على متنه لأنه داخل في الممكنات التي تتعلق بتكرمة الله عبده المختار (صلى الله عليه وسلم) .
ب_ لذلك وقف نقدهم عند فقرته الأخيرة من ذكر أبي بكر وبلال (رضي الله عنهما) فأوردوا عليها بعض الاحتمالات، ومن ذلك رواية البزار بإرسال رجل آخر مكان بلال لم يذكر اسمه، ونضيف إلى ذلك الرواية الثالثة القائلة بأن الذي عاد به إلى مكة هو عمه أبو طالب2.
ولننظر الآن في كل من الملاحظتين على حدة:
أ_ لا خلاف على صحة السند بشهادة أولي العلم، ولعل الخلاف أن يكون مقصورا على تعيين نوع الحديث أمن المراسيل هو أم من المرفوعات؟.. والذي يطمئن إليه العقل والقلب هو ما ذهب إليه ابن كثير من القطع بإرساله، وفي هذه الحال لا يعدو كونه نوعا من الأخبار التي سمع أبو موسى (رضي الله عنه) بعض الناس يتناقلونها فحملها عنهم.. ويؤيد ذلك وقف الخبر على روايه الأخير الذي يقول فيه أحد عارفيه –كما أسلفنا- (ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد) 3.
__________
1 فقه السيرة ط دار الكتب الحديثة 68 –69 /1976.
2 ابن هشام ط الحلبي ج /183.
3 ابن كثير ج 2 /285.
(1/287)
ب_ إن تسليم نقلة الخبر باحتمال الوهم أو الإدراج في آخره يفتح المجال للتساؤل عما إذا كان مثل ذلك قد حدث أيضا في بعض أجزائه الأخرى، ونخص بالذكر منها سجود الحجارة، وكيف كان وعلى أي سورة؟.. وليس تصور هذا بأقل غرابة من مشاهدة ميسرة للملائة في الخبر الآخر.
ج_ إعلان بحيرة نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) كان على مسمع منه (صلى الله عليه وسلم) ومسمع ومشهد من أشياخ الركب، فلم طُمِس على هذا الجانب نهائيا فيما بعد، فلم يُذكر على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قط، ولم يرو عن أحد من هؤلاء الأشياخ، بل الذي حدث أن مكة كلها فوجئت بالنبأ العظيم عقيب يوم حراء العظيم؟!
د_ لقد حدّث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكثير من إرهاصات نبوته، وجاء بعض أحاديثه في هذا الصدد أجوبة على أسئلة صحابته وفيها ما يفوق بشرى بحيرا، كشق صدره وتسليم الحجر والشجر عليه، وبعد البعثة شهد الجم الغفير من أصحابه خوارق المعجزات التي حققها الله على يديه، وقد أودع ذلك كله بطون المراجع التي بلغت أعلى درجات الصحة، فكيف أمسك (صلى الله عليه وسلم) عن ذكر خبر بحيرا فلم ينقل عنه، ولم سكت صحابته الأدنون فلم يسألوه عنه، مع أنه جدير باستفساراتهم؟!!.. أليس في ذلك دليل على أن ذلك الخبر لم يكن معروفا أيامه (صلى الله عليه وسلم) وإنما تأخر ظهوره إلى ما بعد وفاته؟!
هـ- وأخيرا ليسمح لنا فضيلة الشيخ ناصر –نفع الله بعلمه- أن نذكره بأن مثله عن موافقة بعض الإنجيليين لبعض أنباء القرآن بشأن موسى (عليه السلام) غير كاف لتسويغ ذلك التشابه الغريب ما زعموه من البشريات بظهور المسيح (عليه السلام) وما ذكره كتاب السيرة من بشائر البعثة النبوية التي نحن بصددها، فالمسلم لم يصدق أخبار أهل الكتاب عن موسى (عليه السلام) لو لم يقرأها في الذكر المحفوظ، وإلا فكم من خبر لديهم لا يساوي المداد الذي كتب به، وإذن فلا وجه للمقارنة بين كتبهم التي لا يعرف أصلها ومصادرها التي أقامت للفكر البشري معالم التحقيق الفاصل بين الحق والباطل.. هذا إلى أن الخبر الذي نسبه الشيخ ناصر إلى الإنجيليين إنما هو من أسفار اليهود فلا مكان في صحف هؤلاء ولا مناسبة – فيما أذكر -.
ولعل من الخير أن نختم هذه الملاحظات بتلك الكلمة الحكيمة التي عقب بها العلامة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة – غفر الله له - على ما عرضه من أشباه تلك المرويات التي
(1/288)
ناقشنا بعضها حيث يقول: "إننا لا يجب علينا دينا وإيمانا أن ندعن لهذه الأخبار وإن كانت من حيث السند صادقة1.. لأن هذه الأمور ليست جزءا مما دعا النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الإيمان به2".
ونحن في مناقشتنا لهذه الأخبار إنما نفعل ذلك حفاظا على منهج السلف في تصفية التاريخ الإسلامي من كل خبر لا يحمل طابع الصحة الحاسمة.. وانطلاقا من هذا الاتجاه نرفع إلى أستاذنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، وإلى معالي أخيه الشيخ محمد علي الحركان، وصاحبي الفضيلة الدكتور عبد الله الزايد، نائب رئيس الجامعة الإسلامية، والدكتور عبد الله التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حفظهم الله وبارك جهودهم، اقتراحا نرجو أن ينال قبولهم، وهو أن يؤلفوا مجمعا خاصا باسم (المجلس الأعلى لتصفية السيرة المطهرة) تكون مهمته أن يقدم للعالم الإسلامي كتابا في السيرة النبوية يقتصر على أصح الأخبار من تاريخ أكرم مختار، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار. وليس ذلك على هممهم العالية وإخلاصهم الكبير بعزيز، إن شاء الله..
وللأخ الفاضل الأستاذ علي الطنطاوي أخيرا وافر الدعاء على ما أثاره من البواعث لإخراج هذا البحث الذي نرجو أن يكون مقبولا عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولله الحمد من قبل ومن بعد.
__________
1 انظر ص 47 ج 1 من كتابه (خاتم النبيين) .
2 انظر ص 47 ج 1 من كتابه (خاتم النبيين) .
(1/289)
لا حاجة إلى القول بأني أحد المستمعين بأحاديث الأخ
الشيخ علي الطنطاوي، التي يرسلها عن طريق المذياع قبيل صلاة العصر من كل يوم، حتى
لا يكاد يفوتني أحدها إلا تحت الضرورة، فالشيخ، حفظه الله وبارك في حياته، قد أصبح
منذ بدأ هذه الأحاديث أنيس الجماهير، إذ اقتحم على الناس مساكنهم ومشاغلهم، واجتذب
اهتمامهم فألفوا صوته، واستعذبوا أسلوبه، الذي يمزج الجد باللعب، والعلم بالأدب،
ويخالط مشاعرهم بما يتناول من مسائلهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم.. بتلك اللهجة المحببة
التي يطلقها على فطرتها، فتحمل المستمع – والرائي- نفحات الغوطة ومشاهد قاسيون،
وذكريات دمر وبردي من دنيا الشام، دنيا الصبا والشباب والأحلام.
والله تبارك اسمه، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، هو الذي قدر التلاقي والاقتراب في نطاق الأفكار، فقد تتقارب حتى لتجمعها الوحدة، وتتباين حتى لا يتصور بينها لقاء. وطبيعي أن يرتفع منسوب هذا وذاك بالنسبة إلى أحاديث تكاد تؤلف موسوعة يتعذر تحديدها من المعلومات والمفهومات والتقريرات والفكاهات.. وعلى الرغم من كثرة نقاط التلاقي بين أفكار الأخ الطنطاوي وأفكاري، فهناك مواقف نختلف عليها وقد يبلغ بعضها حدا يقتضي الحوار، فأكتب به إليه أو يعقب في أحاديثه عليه.. وعلى هذا السنن أراني اليوم مدفوعا لمناقشة واحدة من نقاط الاختلاف التي عرض لها في بعض أحاديثه أكثر من مرة. وقد كان علي أن أثير هذه المناقشة معه من زمان، بيد أن ظروف العمل التي تستحوذ على /(1/273)
معظم وقتي حالت دون ذلك من قبل، وإنما حفزني إليها اليوم خبر أورده ابن إسحاق في تضاعيف السيرة ومر به ابن هشام ثم العاملون في خدمتها من المحققين والناشرين دون أن يلقوا إليه بالا فيما أعلم..
وبازاء هذا الخبر وقفت أتأمل وأفكر وأقارن، حتى انتهيت إلى القناعة بأن من الخير كتابة هذا البحث لا في شأنه وحده، بل في أهم جوانب الموضوع المتصل به، مما سبق أن أثاره في صدري حديث الأستاذ المكرر..
* أما الموضوع ففي نطاق البشائر التي تقدمت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقدمه ومبعثه والرسالة العظمى التي يحملها إلى الثقلين جميعا، فيجمع بها شمل الإنسانية التي فرقتها العصبيات، وينشر لأول مرة في تاريخ الدنيا إعلانه العالمي عن حقوق الإنسان في الحياة والكرامة والحرية.
ومهما تكن المناسبة التي دعت الأستاذ الطنطاوي إلى التعرض لهذا الموضوع، فهي لا تعدو سؤالا أورده أحد مستمعيه بغية الوقوف على جوابه بشأن ما ذكره كتاب السيرة النبوية عن المبشرات بظهور رسول الله في مختلف الروايات التاريخية. وقد رأيت الأستاذ أجزل الله مثوبته يميل صراحة إلى إنكار هذه الأخبار، ليؤكد خلو ذهن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أي علم سابق عن ترشيحه لذلك المنصب الأعلى.. وما أدري أجاء تكراره لهذه الأفكار من قبل الإذاعة التي من عادتها إعادة بعض الحلقات في مناسبات مختلفة، أم كان جوابا آخر مؤكدا على سؤال جديد في الموضوع نفسه!. وعلى أي حال فقد كان لموقفه هذا أثره في صدري كما أسلفت، لاعتقادي أنه ينطوي على إطلاق لابد من تقييده، حفاظا على الحقيقة التي نحبها جميعا، ذلك لأن قبول كل ما ورد في السيرة من هذه البشائر ضرب من الاستسلام الضرير، الذي لا تقره الرؤية الإسلامية، كما أن رفض كل ما يتعلق بهذا الجانب تحكم لا مسوغ له في منطق العلم والعقل.
وإذن ففي جوابَيْ الأستاذ حول هذه البشائر صواب لا مندوحة عن إقراره، وفيهما خطأ لا يرضى هو بالسكوت عنه، ولا يتفق مع منهجه العلمي.. ولننظر الآن في كل من الجانبين على حدة
* إن المتتبع في وعي لروايات السيرة حول نشأة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يجد نفسه بازاء أخبار من حقها –لو صحت- أن تهيء ذهنه صلى الله عليه وسلم لاستقبال النبأ العظيم.. وفي مقدمة هذه الروايات خبر بحيرا، الذي تقدمه الرواية على أنه راهب عربي، اتخذ طريق القوافل على حدود الشام صومعة يعبد بها ربه، حتى إذا مرّ به
(1/274) ركب قريش، وفيه أبو طالب وابن أخيه – الذي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد - شدّت انتباهه ظاهرة غير مألوفة ما لبث أن تحرك لاستكشافها، فدعا القوم لطعامه، وأكد عليهم أن لا يتخلف عنه أحد منهم ومن ثم شرع في تحريه، استقراء عن طريق العلامات المميزة، واستنطاقا بالأسئلة التي طرحها على الغلام المنشود، حتى استيقن الحقيقة التي يتطلع إليها أولو العلم من أحبار يهود ورهبان النصارى.. وهنا تنتهي قصة بحيرا لدى ابن هشام وابن كثير1 ثم يواصل الثاني حديثه عن بحيرى برواية ٌراد أبي نوح، التي تقول إن بحيرا قد أعلن قناعته بكون هذا اليتيم هو المبعوث المنتظر2.
والله تبارك اسمه، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، هو الذي قدر التلاقي والاقتراب في نطاق الأفكار، فقد تتقارب حتى لتجمعها الوحدة، وتتباين حتى لا يتصور بينها لقاء. وطبيعي أن يرتفع منسوب هذا وذاك بالنسبة إلى أحاديث تكاد تؤلف موسوعة يتعذر تحديدها من المعلومات والمفهومات والتقريرات والفكاهات.. وعلى الرغم من كثرة نقاط التلاقي بين أفكار الأخ الطنطاوي وأفكاري، فهناك مواقف نختلف عليها وقد يبلغ بعضها حدا يقتضي الحوار، فأكتب به إليه أو يعقب في أحاديثه عليه.. وعلى هذا السنن أراني اليوم مدفوعا لمناقشة واحدة من نقاط الاختلاف التي عرض لها في بعض أحاديثه أكثر من مرة. وقد كان علي أن أثير هذه المناقشة معه من زمان، بيد أن ظروف العمل التي تستحوذ على /(1/273)
معظم وقتي حالت دون ذلك من قبل، وإنما حفزني إليها اليوم خبر أورده ابن إسحاق في تضاعيف السيرة ومر به ابن هشام ثم العاملون في خدمتها من المحققين والناشرين دون أن يلقوا إليه بالا فيما أعلم..
وبازاء هذا الخبر وقفت أتأمل وأفكر وأقارن، حتى انتهيت إلى القناعة بأن من الخير كتابة هذا البحث لا في شأنه وحده، بل في أهم جوانب الموضوع المتصل به، مما سبق أن أثاره في صدري حديث الأستاذ المكرر..
* أما الموضوع ففي نطاق البشائر التي تقدمت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقدمه ومبعثه والرسالة العظمى التي يحملها إلى الثقلين جميعا، فيجمع بها شمل الإنسانية التي فرقتها العصبيات، وينشر لأول مرة في تاريخ الدنيا إعلانه العالمي عن حقوق الإنسان في الحياة والكرامة والحرية.
ومهما تكن المناسبة التي دعت الأستاذ الطنطاوي إلى التعرض لهذا الموضوع، فهي لا تعدو سؤالا أورده أحد مستمعيه بغية الوقوف على جوابه بشأن ما ذكره كتاب السيرة النبوية عن المبشرات بظهور رسول الله في مختلف الروايات التاريخية. وقد رأيت الأستاذ أجزل الله مثوبته يميل صراحة إلى إنكار هذه الأخبار، ليؤكد خلو ذهن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أي علم سابق عن ترشيحه لذلك المنصب الأعلى.. وما أدري أجاء تكراره لهذه الأفكار من قبل الإذاعة التي من عادتها إعادة بعض الحلقات في مناسبات مختلفة، أم كان جوابا آخر مؤكدا على سؤال جديد في الموضوع نفسه!. وعلى أي حال فقد كان لموقفه هذا أثره في صدري كما أسلفت، لاعتقادي أنه ينطوي على إطلاق لابد من تقييده، حفاظا على الحقيقة التي نحبها جميعا، ذلك لأن قبول كل ما ورد في السيرة من هذه البشائر ضرب من الاستسلام الضرير، الذي لا تقره الرؤية الإسلامية، كما أن رفض كل ما يتعلق بهذا الجانب تحكم لا مسوغ له في منطق العلم والعقل.
وإذن ففي جوابَيْ الأستاذ حول هذه البشائر صواب لا مندوحة عن إقراره، وفيهما خطأ لا يرضى هو بالسكوت عنه، ولا يتفق مع منهجه العلمي.. ولننظر الآن في كل من الجانبين على حدة
* إن المتتبع في وعي لروايات السيرة حول نشأة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يجد نفسه بازاء أخبار من حقها –لو صحت- أن تهيء ذهنه صلى الله عليه وسلم لاستقبال النبأ العظيم.. وفي مقدمة هذه الروايات خبر بحيرا، الذي تقدمه الرواية على أنه راهب عربي، اتخذ طريق القوافل على حدود الشام صومعة يعبد بها ربه، حتى إذا مرّ به
(1/274) ركب قريش، وفيه أبو طالب وابن أخيه – الذي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد - شدّت انتباهه ظاهرة غير مألوفة ما لبث أن تحرك لاستكشافها، فدعا القوم لطعامه، وأكد عليهم أن لا يتخلف عنه أحد منهم ومن ثم شرع في تحريه، استقراء عن طريق العلامات المميزة، واستنطاقا بالأسئلة التي طرحها على الغلام المنشود، حتى استيقن الحقيقة التي يتطلع إليها أولو العلم من أحبار يهود ورهبان النصارى.. وهنا تنتهي قصة بحيرا لدى ابن هشام وابن كثير1 ثم يواصل الثاني حديثه عن بحيرى برواية ٌراد أبي نوح، التي تقول إن بحيرا قد أعلن قناعته بكون هذا اليتيم هو المبعوث المنتظر2.
ثم تأتي الرواية الأخرى عن رحلته صلى الله عليه وسلم بتجارة الطاهرة – خديجة - إلى الشام، حيث أتيح لفتاها ميسرة أن يرى ويسمع من خلال محمد صلى الله عليه وسلم ما ملأ قلبه إعجابا وتقديرا.
ولا تقف الرواية عند هذا الحد، بل تضم إليه أيضا بعض المشاهد الخارقة التي أحاطت بالرفيق الكريم أثناء الرحلة، من تظليل الغمامة ورعاية الملكي له.. وإخبار راهب نصراني لمسيرة بما يفيد أن رفيقه مرشح لمقام النبوة3.. حتى إذا وصل ركبهما مكة ذهب مسيرة يحدث مولاته خديجة بمرتئياته ومسموعا ته، وبخاصة كلمة الراهب، فلم تتمالك أن مضت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تذكر له حديث ميسرة، فما كان من هذا إلا أن أكد لها توقعات الراهب قائلا: "لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة4.
وتمضي الرواية فتعرض لنا اهتمام ورقة عقيب ذلك بخبر محمد صلى الله عليه وسلم حتى ليترجم أشواقه إلى يوم إعلانه دعوته بأبيات نثبت فيما يلي بعضها:
لججت، وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيج
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أكثركم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
__________
1 انظر سيرة ابن هشام ص 183 ج 1 ط الحلبي و (والبداية والنهاية) ص 283 -284 ج 2 ط المعارف بيروت 1977.
2 ابن كثير ج 2 ص 284 –285.
3 ابن كثير ج 2 ص 284 –285.
4 ابن هشام ج 1 ط الحلبي ص 177 -191 وابن كثير ج 2 ص 293-296. (1/275)
ويتبع هذه الرواية أخبار أخرى عن كهنة العرب، وتشير إلى مبعث النبي الموعود، مرة بالرمز إليه، وأخرى بالتصريح عن اسمه.. وحسبنا منها جميعا معالجة الخبرين الأولين بالممكن من التدقيق في قيمتهما العلمية ومدى صلتهما بالواقع.
* ونبدأ بخبر بحيرا. فمع اختلاف مؤرخي السيرة في شخصيته ونسبته وملته يكادون يتفقون على كونه من أحبار أهل الكتاب، قد أقام في صومعته تلك يعبد الله في معزل عن مفاسد عصره. وحين يعرضون ليوم لقائه محمدا صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب يكادون يتفقون كذلك علة تنويهه بشأنه، بعد تحققه من صفاته التي يجدها في بعض آثار الأنبياء السابقين.. ويزيد بعضهم أنه على مرأى ومسمع من أشياخ الركب (أخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا سيد العالمين" وفي رواية الترمذي والبيهقي قال: "هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين.." ولما سأله هؤلاء عن مستند علمه عنه أجاب: "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي.. وإني أعرفه بخاتم النبوة بأسفل من غضروف في كتفه.." ولم يكتف بالخبر فأراهم الشجرة وهي تفيء بظلها عليه.. ثم مازال بعمه حتى رده إلى مكة حماية له من الروم –وفي رواية من يهود- وتختم هذه الرواية بأن أبا بكر بعث معه بلالا وزوده الراهب بالكعك والزيت1.
والذي يهمنا من حديث بحيرا هو إخباره بمستقبل محمد صلى الله عليه وسلم من حيث اصطفاء الله إياه لرسالته الخاتمة، وتوكيده ذلك بسجود الشجر والحجر له.. فهاهنا يتوقف القارئ المفكر ليتساءل عن نصيب القصة من الواقع، وبخاصة أن بحيرا لم يلق بالخبر همسا في مسمع واحد بعينعه بل أعلنه صراحة على ملأ من أفراد الركب، الذين طالبه أشياخهم بالبرهان على مدّعاه..
وأنت حين تواجه هذا الخبر لابد لك من التساؤل ((كيف ينسى محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النبأ فيما بعد، وما بال أشياخ قريش ينسونه أيضا، فلا يتذكرونه يوم يطله عليهم بدعوة ربه؟. بل يقابلونها بالجحود والعناد، الذي يقطع بأن المعارضين قد فوجئوا
__________
1 انظر البداية والنهاية: 284 و 285 ج 5. وسنن الترمذي ج 5 250 -251 ط السلفي والدلائل للبيهقي ج 1 307.
(1/276)
بها، كما فوجئ بها محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، الذي ناء تحت ثقله أول الأمر، ثم لم يطمئن قلبه إليها إلا بعد أن ثبته الله بلطفه، وبما يسر له من عون الزوج العظيمة خديجة.
ونظرة أخيرة إلى خاتمة القصة تكشف لك واحدة أخرى من المشكلات التي لا تجد لها حلا. إذ المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في الثانية عشرة، يكبر صديقه أبا بكر بما يقارب الثلاث من السنوات، إذ كان ما بين التاسعة والعاشرة، ولم تذكر له السيرة أي صلة ببلال، الذي كان في رق أمية بن خلف حتى يوم انتقاله إلى الملك الصديق في أوائل سني البعثة.. فكيف كبر الصديق حتى قام بمسئولية الحماية لمحمد؟.. وكيف أفلت بلال من رق أمية ودخل سلطان الصديق؟.. وكيف ارتفعت سنه بغتة صار قادرا على القيام بهذه المهمة؟.. ومن أين جاء اسم الكعك إلى القصة وهو لفظ لعله لم يتطرق إلى العربية إلا بعد الفتح الإسلامي؟.
وهذه الحيرة التي تراودك بازاء القصة قد سبقنا إليها عدد من رجال الحديث الذين لم يستطيعون ردها تهيبا لسنده، ولكنهم لم يكتموا رأيهم بأن من حملها إنما حملها لغرابتها مع التوكيد على انفراد راويها الأخير بها، حتى أن ابن إسحاق نفسه لم يستطع عرضها إلا في صيغة ((الزعم التي تنم عن منتهى الشك)) 1 وكذلك فعل ابن كثير حين وجه إليها نقدا يوشك أن يكون ردا للرواية بأسرها، ومثله صنع الزرقاني في شرحه على المواهب إذ نقل تضعيف الذهبي للخبر2 كما فعل البيهقي بقوله نقلا عن أحدهم: "ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد"3.
وننتقل الآن إلى القسم الثاني:
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من سنيه، وكان رفيقه في هذه الرحلة ميسرة غلامها، ولابد أنها استغرقت طويلا من الزمن، وبذلك أتيح لمسيرة وهو العاقل الفهم –كما يلوح من خلال الرواية- أن يشهد من خلائق محمد وسمو تصرفاته أثنائذ ما يدفعه إلى الحديث عنهما لكل من يتصل به وبخاصة مولاته خديجة، التي لابد أنها أصغت إلى روايته تلك بإعجاب الكريم الفاضل يسمع أنباء إنسان
__________
1 ابن كثير ج 2 285. وابن هشام ج 1 180 -183 ط الحلبي.
2 ابن كثير ج 2 285، وابن هشام ج 1 180 -183 ط الحلبي.
3 انظر هامش ص 82 من كتاب (الفصول في اختصار سيرة الرسول) ط دار القلم بيروت.
(1/277)
بلغ القمة في عالم الفضائل، حتى ليدفعها ذلك الإعجاب إلى التفكير في الاقتران به. وسواء توسلت إلى هذه الأمنية الغالية بعرض أمرها عليه مباشرة –كرواية ابن إسحاق1- أو بوساطة المرأة الحكيمة نفيسة بنت علية2 أو عن طريق أخت لخديجة في إحدى الروايات، فقد أتم الله ذلك القران السعيد الذي عم ببركته لا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل العالم الإسلامي بأجمعه حتى تقوم الساعة.
وإلى هنا والخبر طبيعي ومعقول، ولكن التوقف إنما يتأتى عند بقيته، حيث نرى خديجة رضي الله عنها مشغولة الذهن بموضوع الغمامة والملائكة وخبر النبوة، حتى لا تتمالك أن تقصد إلى ذلك الرجل الحكيم العليم ورقة بن نوفل لتتعرف تأويل تلك الظواهر، فتسمع منه البشرى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك باعثها الفعال على طلب الزواج منه.
وبقليل من التأمل في مسيرة هذا الجزء من الرواية يتضح لك اضطرابه هو الآخر ذلك أن خبرا كهذه تسمعه خديجة من ميسرة ثم من ورقة من حقه أن يصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم عقب زواجه أو خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الوحي، وهذا ما ترفضه الوقائع، التي تؤكد أن محمدا وخديجة كليهما كانا سواء في خلو ذهنيهما من أمر الوحي، إذ فاجأة على غير انتظار، وفاجأها به في جو من الورع المهيب، فلم تجد ما تقوله له سوى التذكير بفضائله التي لا يقاربها الشيطان.. وحسبنا دليلا حاسما على خلو ذهنه صلى الله عليه وسلم من موضوع النبوة كليا قول ربه له تبارك اسمه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ ... } (الشورى آية 52) وهو توكيد حازم لما سبق من قوله الآخر سبحانه في سورة الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ففي كلتا الآيتين تصوير عميق الدلالة على الوضع النفسي الذي كان يلابس محمدا صلى الله عليه وسلم قبل الوحي، فهو في حيرة لا يعرف السبيل إلى جلائها، فلا فكرة لديه عن رسالات الله، ولا يعرف من الإيمان سوى التوحيد الفطري الذي ينطق به كل شيء في هذا الكون، إلى أن فاجأه الزائر العظيم في أحضان حراء..
ومن هذا كله نجد أنفسنا تلقاء أمرين: أحدهما الشك في خبر الراهب النصراني عن الغمام والملائكة والشجرة التي ما نزل تحتها قط إلا نبي3 والثاني أن يكون اتصال
__________
1 راجع الدلائل ص 309 السلفية.
2 ابن هشام ط الحلبي ص 189 ج.1.
3 ابن هشام ط دار الفكر ج1 205 -في الهامش- وفي (المنتخب من السنة) تذكر باسم نفسية.
(1/278)
خديجة بورقة لاستطلاع رأيه لم يأت عقيب عودته صلى الله عليه وسلم ومسيرة من الشام، بل الأحرى أن يكون حصوله على إثر نزول الوحي مباشرة، يوم عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف من الرعب، فذهبت به إلى ابن عمها الذي اطمأن وبشره بالنبوة1.
وعلى هذا التقدير يكون ثم تقديم وتأخير في أجزاء الحادث المتصل ببشرى ورقة.. ولعلنا لو لأعدنا ترتيب هذه الأجزاء وفق منطق الحوادث لوجدنا أنفسنا تلقاء الصورة التالية أو قريبا منها:
يعود رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إثر اللحظة الهائلة التي قدر فيها لقاء جبريل (عليه السلام) إلى خديجة يرتجف من الروع، فتتلقاه بأحسن ما تملك من كريم الرعاية وجميل البيان، حتى إذا اطمأن إلى هدوئه، أخذت سبيلها في زورة عجلي إلى ابن عمها ورقة، أعلم أهل مكة بأمر الدين، فما إن يسمع حديثها عن تلك المفاجأة حتى يهزه الوجد، ويأخذ في التسبيح: قدوس قدوس.. ثم يصرح بالبشرى: "والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا جديجة لقد جاءه الناموس الأكبر –جبريل- وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت2".
وهكذا تعود خديجة (رضي الله عنها) إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) بكلمة ورقة تشد بها عزيمته، ولتقول له في ثقة عالية وبألفاظ ورقة نفسها: "والذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة3". وطلبا للمزيد من التثبيت ترى أن يسمع محمد تلك البشرى الشافية من فم صاحبها مباشرة، ولذلك (انطلقت بمحمد حتى أتت ورقة فقالت له: "يا ابن عم اسمع من ابن أخيك".. فأخبره (صلى الله عليه وسلم) خبر ما رأى فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى4". ومن هنا جعلت الأشواق تتفاعل في صدر ورقة إلى اليوم الذي يؤمر فيه النبي الخاتم بتبليغ رسالة ربه، فلا يتمالك أن يترجمها بتلك الأبيات التي أثبتناها في ما تقدم. ثم يلقي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يطوف بالبيت فيستعيد خبره، ولعله يستوضحه عما جدّ له، فيقص عليه ما رأى وما سمع، فيكرر ورقة ما قاله من قبل مؤكدا بشراه بالقسم: "والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة"5.
__________
1 ابن هشام ط الحلبي ج 1 ص 188، وعبارة ابن كثير خالية من الظرف ((قط)) ج 2 ص 294، ويفسر السهيلي عبارة الراهب بقصده إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وحده وهو بعيد، وذكر الظرف المستغرق للماضي عند ابن هشام يفيد القطع بأنه لم يجلس تحت هذه الشجرة قبل محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا النبيون.
2 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1، وانظر ابن كثير ج 3 ص 3. والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
3 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر ابن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج1 /73 /74.
4 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر بن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
5 ابن هشام ط الحلبي ص 238 ج 1 وانظر بن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 /73 /74.
(1/279)
ومما يؤيد هذا الاتجاه في ترتيب أجزاء الخبر رواية ابن كثير له حيث يعرض نبأ عودته (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة وهو يقول: "زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فأخبر خديجة بأمره، وقال: "لقد خشيت على نفسي".. فجعلت خديجة تسري عنه بقولها: "كلا.. والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق.." ويعقب ابن كثير ذلك بقوله: "فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة.." إلى نهاية الخبر.
فأنت ترى خلو رواية ابن كثير من هذا القول المنسوب في السيرة إلى خديجة "إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" وتؤكد رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي.
ورب متسائل يقول: ومن أين جاء خبر تظليل الملائكة والغمام وسجود الحجر والشجر لمحمد وانصهارها عليه؟!.. فأقرب جواب على ذلك أن يكون بعض نساخ السيرة، وربما كان من مسلمة أهل الكتاب، قد آسفه أن يقرأ في أسفارهم مثل تلك العجائب تواكب بعثة بعض الأنبياء، ولا يرى مثل ذلك في سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي أكرمه الله بإمامتهم جميعا، فلم ير بأسا في إضافة مثلها إلى بعض أخباره.. بل لا أستغرب أن يكون من هذه الإضافات ذلك الخبر القائل إن يهوديا أطل من أطمه في يثرب ليصرخ في قومه: "يا معشر يهود.. طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به1 وذلك مضاهات لما تقوله بعض مكتوبات النصارى من أن رجلا من فارس قد عرفوا بميلاد المسيح (عليه السلام) من نجم معين فجعلوا يتتبعونه حتى انتهوا إلى مقره في بيت لحم2.
وأنا إذ أعرض هذه التصورات لا أنسى أن بعض هذه الأخبار مكتوب في بعض المؤلفات المقدرة عند جمهور المسلمين، ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن لمؤلفيها رأيا معلوما في التفريق بين التاريخ والشريعة، فهم إذا رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تشددوا في التحقيق، وإذا عرضوا للأخبار التاريخية مالوا إلى التساهل. وليتهم لم يفعلوا ذلك لأن التاريخ في ضوء الإسلام معرض العبر التي يجب على المسلم تطبيقها في حياته، وإنما يصلح التطبيق إذا صحت الوقائع، وكل تحريف في عرضها إنما هو مضيعة أو مفسدة للعبرة نفسها..
__________
1 ابن هشام ج 1 /159 ط الحلبي، وقريب من ذلك رواية الحاكم في المستدرك عن يهودي فعل هذا بعض هذا في مكة أيضا ج 2 /601 –602.
2 راجع الفصل الثاني من إنجيل متى.
(1/280)
* ونعود الآن إلى قصيدة ورقة ذات الصلة الوثيقة بهذا الموضوع، فهي من الناحية الفنية أشبه صياغة بأساليب الشعر المكي أثناء البعثة، الذي قلما يتوافر له الألق الجذاب، الذي نعرفه في أساليب الفحول من نجد ويثرب.. إنه أقرب ما يكون إلى نظم العلماء منه إلى غناء الشعراء ... ولذلك لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى ورقة الحبر العالم صحيحة لما تحمله من التركيز على الجانب الفكري، الذي يصور تطلعه إلى موعد الجهر بدعوة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ليقف بجانبه يشاطره ما سيتحمله من العناء والبلاء في سبيل الله.. ولا نرى حاجة إلى استعادتها مرة ثانية هنا، ولكن ثمة بعض المؤشرات التي لا مندوحة من التوقف عندها قليلا:
يقول ورقة (رحمه الله) :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
فهو في هذه المقدمة يعبر عن تشوقه لأخبار محمد (صلى الله عليه وسلم) التي حركت سواكن الأشجان في صدره من أوضاع الناس الغارقين حوله في حلكات الظلام.. فهو يتطلع بلهفة إلى الموعد المنتظر.. وهي مقدمة واضحة الدلالة، على الرغم مما فيها من جفاف العبارة وتكلف الشاعرية.. ولكن هذا الانسجام لا يلبث أن يتقلقل عندما نقرأ البيت الرائع:
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
والمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لمجرد جلوسه تحت الشجرة ... وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دسا، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته، ففي (يعوجا) محاولة لقصر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة، فضلا عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غربة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة:
بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيجا
(1/281)
فأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ... ) هو (وصف) في صدر البيت الثاني، وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت ... فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول.
ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطلق البحث، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ على الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السابقة لظهوره.
فأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الفضائل فقد أوضحناه مؤيدا بكل ما نملك من الحجج والبيانات، وقد بقى أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي إليه العقل والقلب من وسائل الإثبات.
وقبل التعرض لهذه الوسائل يحسن بنا أن نذكر القارئ بما لا يحسن أن يغفله من المعلومات الأولية، وهي أن بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) كانت ولا تزال أعظم أحداث التاريخ البشري قاطبة، لأن الإنسانية بها انتقلت من صحراء الضياع الذي يصوره قول الله تبارك اسمه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ... } (الروم الآية 41) . ثم قول رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) في وصف الوضع البشري أثناء بعثته: " ... إن الله اطلع إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"1. إلى ساحت النور فاتضحت معالم الطريق، وتحددت المسئوليات، وانكشف للأبصار ما طمسته الجاهلية من حقيقة الإنسان وتبعاته، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة..
وحدث له مثل هذا الثقل في موازين الوجود لا يعقل أن يفاجئ الله به الجنس البشري دون أن يمهد له بما يهيئ لاستقبله الأذهان.. ولذلك لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد بالإبلاغ عن هذا المبعوث الذي يدخره سبحانه لإنقاذ سفينة الحياة من زوابع الضلال..
يقول جل شأنه في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
__________
1 من حديث طويل أخرجه مسلم.
(1/282)
وفي تفسير هذا الميثاق ينقل ابن كثير عن علي وابن عباس أن الله لم يبعث نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ويقول سبحانه في التعقيب على استغفار نبيه موسى (عليه السلام) : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف 156 و157) .
وفي هاتين الآيتين يقول ابن كثير أيضا: "وهذه صفة محمد (صلى الله عليه وسلم) في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم".
ولقد والله رأينا صفاته هذه في التوراة لا تزال قائمة على الرغم من كل التحريفات التي لحقت بها، ورأيناها في إنجيل يوحنا منقولة عن لسان عيسى (عليه السلام) يبشر فيها بمبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) ويحدد صفته بالاسم، على الرغم من تلاعبهم بتغييره في الترجمة العربية، إذ جعلوه (المعزّي) بدل (أحمد) ويأبى الله إلا يفضح المزورون فيكشف الحقيقة بلسان المستشرق الإيطالي الدكتور ((نلينو)) الذي صرح للشيخ عبد الوهاب النجار بأن اسم المبشر به باليونانية وهو (الفارقليطس) يعني بالعربية الكثير الحمد.. بل لقد كشفوا هم أنفسهم عن تزويرهم هذا بما كتبوه في ذيل الصحف التي حملت البشارة من إنجيل يوحنا المطبوع بالعربية، حيث يقولون بالحرف الواحد تعقيبا على كلمة المعزي (إن لفظ المعزي ليس له في المتن الأصلي شيء من معنى الحمد. ومن فسره بالمعزي فإنما تحرف عليه المعزي الذي في الترجمات العربية..) ومجرد ذكرهم هنا لفظ الحمد دليل قاطع على اختلافهم حول ترجمة اللفظ اليوناني الأصلي، وعلى أن بينهم من ذهب إلى ربطه بمعنى (الحمد) الذي يراد استبعاده بهذه الحاشية، فكان ذلك شهادة منهم على أنفسهم بالتزوير والتحريف.. وملاحظة أخرى وهي أن في الفقرة الأخيرة إشارة صريحة إلى وجود ترجمات سابقة بالعربية أثبت فيها اللفظ المشتق من الحمد بدل (المعزي) 1.. ولو هم انصفوا عقولهم وآثروا الحق لتركوا لبشارة المسيح أن تصل إلى آذان الناس وقلوبهم، لأنها إذ ذاك لن تكون إلا
__________
1 انظر الفصل 16 من إنجيل يوحنا وحاشيته في الطبعة اليسوعية. ويلاحظ في الفقرة الأخيرة من الحاشية أن ثمة زلقة قلم وضعت كلمة (المعزي) مكان (الحمد) بقول المحشي (ومن فسره بالمعزي) يريد (ومن فسره بالحمد) حسب مفهوم السياق.
(1/283)
إعلانا للحقيقة التي بلغها المسيح (عليه السلام) من قبل في قوله لبني إسرائيل: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف 6)
ولقد بلغت تلك البشريات في التوراة والإنجيل بمبعث خاتم الرسل (صلى الله عليه وسلم) حدا لم يبق معه مجال للتجاهل، حتى أصبح أولو العلم من أهل الكتاب {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة 146) . ولم يقف أمر هذه البشائر على ذوي العلم من خاصة أهل الكتاب وحدهم، بل لقد انتشرت أنباؤها في سوادهم، حتى لقد كان يهود يثرب يوعدون وثنييها من العرب بأن نبيا أطل زمانه سيتبعونه ويقاتلونهم معه فيقتلونهم قتل عاد وارم {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة 89) .
وحسبنا بهذه الشهادات الدامغة أدلة مقنعة بما أسلفناه من أن ذكر محمد (صلى الله عليه وسلم) كان محفوظا في الكتب المقدسة، وعلى ألسنة أهل العلم، الذين كانوا لا يبرحون يتوارثونه جيلا بعد جيل منذ بعث الله أول نبي وحتى تقوم الساعة.
وليست قصة سلمان (رضي الله عنه) وضربه في الأرض بحثا عن الحق وتلقيه خبر محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلاماته من أسقف عمورية، إلا واحدا من نقول الثقات بعضهم عن بعض لهذه المبشرات..
وحتى موروثات الهنود والفرس القديمة من علوم أسلافهم لم تخل من هذه المبشرات، وقد عني بالحديث عنها كثيرون من مؤرخي المسلمين كابن حزم والشهرستاني وابن تيمية ورحمة الله الدهلوي، وفي كتاب (مطالع الأنوار) لعباس محمود العقاد نماذج وفيرة لمن شاء المزيد من أخبارها. ويقول الأخ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي – الهندي - إنه معني بتأليف كتاب يحمل الكثير من بشائر الكتب الهندوسية بمحمد (صلى الله عليه وسلم) 1.
وسأختم هذا العرض بواحدة من هذه البشائر التي لا مجال للمراء في مدلولها، وقد اخترتها من الكتاب المنسوب إلى أشعياء في مجموعة العهد القديم.
في الإصحاح: 35/ من رؤى أشعياء يعرض هذا النبي صورة رائعة الوضوح والجلال للحدث العظيم الذي أطل على الدنيا ببعث محمد (صلى الله عليه وسلم) فيرينا معالم الخير الذي غمر الجزيرة العربية، والحضارة المثلى التي نشرها الإسلام، لا في الإنسان وده بل في كل شيء.
__________
1 الدكتور ضياء الرحمن من خريجي الجامعة الإسلامية وهو من مدرسيها، وقد كان هندوسيا فهداه الله إلى الإسلام.
(1/284)
فلنستمع إليه يفصل مرئياته من وراء أكثر من ألف سنة قبل بعثة ذلك المنقذ العالمي الذي اصطفاه الله رحمة للعالمين:
يقول أشعياء: "تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارا ويبتهج ابتهاجا ويرنمّ.
يدفع إليه مجد لبنان بهاء كرمل وشارون، هو يرون مجد الرب بهاء إلهنا.
شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبوتها. قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هو ذا إلهكم. الانتقام يأتي جزاء الله هو يأتي ويخلصكم.
حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر ويصير السراب أجما، والمعطشة ينابيع ماء.
في مسكن الذئاب، في مربضها دار للقصب والبَرْدِيّ.
وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس، بل هي لهم.
من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل.
لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها، بل يسلك المفديّون فيها، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح، فرح أبديّ على رؤسهم.. ابتهاج وفرح يدر كانهم، ويهرب الحزن والتنهد1".
إن أشعياء يصوغ مرئياته السعيدة هذه في أسلوب شعري يترقرق بالفرح والبهجة، فلا يتمالك أن يسكب من مشاعره على الأرض اليابسة فإذا هي تموج بمثل فرحه وبهجته.. حتى ليرى كل شيء فيها يضحك ويزهر ويغني ...
ولم كل ذلك؟ ...
لأن انقلاب خارقا قد غيّر مسيرة الحياة فاستبدلت بكآبة الشقاء والضياع هداية السماء التي ملأت الأرض بنور الله.
ولذلك يهيب بالمظلومين: أن افتحوا قلوبكم فقد جاءكم الخلاص على قدر، فلا عدوان بعد اليوم ولا بغي ولا طغيان..
__________
1 انظر أشعياء صح 35.
(1/285)
إنه انقلاب شامل يطلق المواهب كلها في جزيرة العرب، فتنشط العقول، وتتفجر منابع الحكمة على كل لسان.. وتستحيل الأرض، التي كانت حتى الأمس مرتعا للموت، جنات ترف بالأمن الذي ينعم به كل شيء من إنسان وحيوان.
يالها معجزةً أحالت مرابض الذئاب دورا للعلم فلا يكاد يرى فيها إلا القارئون والكاتبون والمعلمون!
ثم ماذا؟
ثم الحرم المقدس الذي طهره الله من كل نجس الكفر، فلا يرتاده إلا القائمون والعاكفون والركع السجود..
إليه يزحف الملبون لنداء السماء من كل حدب وصوب، ومن جوار المسجد الأقصى يفدون لتمجيد الله، الذي وهب لهم كل هذه النعم، حتى إذا قضوا حجهم، وأدّوا مناسكهم، عادوا إلى ربوعهم فرحين بما نالوا من تجلي مولاهم الحق، وقد غمرتهم السعادة بما استشعروه من مغفرته ورضوانه..
لقد قربوا الذبائح في طاعته، وأكثروا من صدقات الفداء عن كل مساءة يتوهمون أنهم أتوها، ومن أجل ذلك استحقوا أن يسميهم أشعياء (مفديي الرب) ..
ويالها بشارة من حقها أن تذكر أهل الكتاب بالعهد الذي أخذه الله عليهم أن يكونوا أول المؤمنين بالصادق الأمين. إمام النبيين، وسيد الأولين والآخرين ...
عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين..
(1/286)
تذييل:
بعد الفراغ من كتابة هذا البحث شاء الله أن أقع على خبر بحيرا في (فقه السيرة) للأستاذ محمد الغزالي وأن أقف من هناك على مناقشة المحدث الفاضل الشيخ ناصر الدين الألباني لقول المؤلف: "سواء صحت قصة بحيرا أو بطلت" ثم لقوله الآخر في شأنها: "والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لمزاعم الإنجيليين في شأن المسيح" حيث يقفي الشيخ ناصر على الفقرة الأولى بقوله: "بل هي صحيحة.." ويحتج لرأيه بأن الترمذي قد أخرج الخبر من طريق أبي موسى الأشعري وعرفه بأنه (حديث حسن) ثم نقل قول الجزري بأن "ذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ" وأردف ذلك برواية البزار عن هذه الفقرة أن الذي عاد بمحمد (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة رجل آخر أرسله معه عمه. ومن ثم عمد إلى نفي
(1/286)
الوضع عن الخبر في الفقرة الثانية محتجا لصحته بما أورده الإنجيليون من أخبار عن موسى (عليه السلام) مطابقة لمضمون القرآن.
وقد دافع الأستاذ الغزالي عن وجهته في الصفحة نفسها محتجا بتقرير أئمة من أهل الحديث، كالذهبي الذي يقول –في ميزان الاعتدال- "مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله: (وبعث معه أبو بكر بلالا) " وكالحافظ ابن حجر الذي ينقل قوله في (المواهب اللدنية) أن "رجاله ثقات وليس فيه سوى هذه النقطة، فيحتمل أن تكون مدرجة فيه، منقطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته.." وأخيرا يورد قول ابن كثير أن من غرائب هذا الحديث كونه من مرسلات الصحابة، فهل على كل تقدير مرسل.1
وقد رأيت أن ألفت نظر القارئ إلى بعض الملاحظات حول هذا الحوار:
أ_ إن عمدة القائلين بصحة هذا الخبر هي ثقتهم بسنده فهو عند صيارفة الحديث من الضرب الموثوق دون ريب. ولا غبار على متنه لأنه داخل في الممكنات التي تتعلق بتكرمة الله عبده المختار (صلى الله عليه وسلم) .
ب_ لذلك وقف نقدهم عند فقرته الأخيرة من ذكر أبي بكر وبلال (رضي الله عنهما) فأوردوا عليها بعض الاحتمالات، ومن ذلك رواية البزار بإرسال رجل آخر مكان بلال لم يذكر اسمه، ونضيف إلى ذلك الرواية الثالثة القائلة بأن الذي عاد به إلى مكة هو عمه أبو طالب2.
ولننظر الآن في كل من الملاحظتين على حدة:
أ_ لا خلاف على صحة السند بشهادة أولي العلم، ولعل الخلاف أن يكون مقصورا على تعيين نوع الحديث أمن المراسيل هو أم من المرفوعات؟.. والذي يطمئن إليه العقل والقلب هو ما ذهب إليه ابن كثير من القطع بإرساله، وفي هذه الحال لا يعدو كونه نوعا من الأخبار التي سمع أبو موسى (رضي الله عنه) بعض الناس يتناقلونها فحملها عنهم.. ويؤيد ذلك وقف الخبر على روايه الأخير الذي يقول فيه أحد عارفيه –كما أسلفنا- (ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد) 3.
__________
1 فقه السيرة ط دار الكتب الحديثة 68 –69 /1976.
2 ابن هشام ط الحلبي ج /183.
3 ابن كثير ج 2 /285.
(1/287)
ب_ إن تسليم نقلة الخبر باحتمال الوهم أو الإدراج في آخره يفتح المجال للتساؤل عما إذا كان مثل ذلك قد حدث أيضا في بعض أجزائه الأخرى، ونخص بالذكر منها سجود الحجارة، وكيف كان وعلى أي سورة؟.. وليس تصور هذا بأقل غرابة من مشاهدة ميسرة للملائة في الخبر الآخر.
ج_ إعلان بحيرة نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) كان على مسمع منه (صلى الله عليه وسلم) ومسمع ومشهد من أشياخ الركب، فلم طُمِس على هذا الجانب نهائيا فيما بعد، فلم يُذكر على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قط، ولم يرو عن أحد من هؤلاء الأشياخ، بل الذي حدث أن مكة كلها فوجئت بالنبأ العظيم عقيب يوم حراء العظيم؟!
د_ لقد حدّث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكثير من إرهاصات نبوته، وجاء بعض أحاديثه في هذا الصدد أجوبة على أسئلة صحابته وفيها ما يفوق بشرى بحيرا، كشق صدره وتسليم الحجر والشجر عليه، وبعد البعثة شهد الجم الغفير من أصحابه خوارق المعجزات التي حققها الله على يديه، وقد أودع ذلك كله بطون المراجع التي بلغت أعلى درجات الصحة، فكيف أمسك (صلى الله عليه وسلم) عن ذكر خبر بحيرا فلم ينقل عنه، ولم سكت صحابته الأدنون فلم يسألوه عنه، مع أنه جدير باستفساراتهم؟!!.. أليس في ذلك دليل على أن ذلك الخبر لم يكن معروفا أيامه (صلى الله عليه وسلم) وإنما تأخر ظهوره إلى ما بعد وفاته؟!
هـ- وأخيرا ليسمح لنا فضيلة الشيخ ناصر –نفع الله بعلمه- أن نذكره بأن مثله عن موافقة بعض الإنجيليين لبعض أنباء القرآن بشأن موسى (عليه السلام) غير كاف لتسويغ ذلك التشابه الغريب ما زعموه من البشريات بظهور المسيح (عليه السلام) وما ذكره كتاب السيرة من بشائر البعثة النبوية التي نحن بصددها، فالمسلم لم يصدق أخبار أهل الكتاب عن موسى (عليه السلام) لو لم يقرأها في الذكر المحفوظ، وإلا فكم من خبر لديهم لا يساوي المداد الذي كتب به، وإذن فلا وجه للمقارنة بين كتبهم التي لا يعرف أصلها ومصادرها التي أقامت للفكر البشري معالم التحقيق الفاصل بين الحق والباطل.. هذا إلى أن الخبر الذي نسبه الشيخ ناصر إلى الإنجيليين إنما هو من أسفار اليهود فلا مكان في صحف هؤلاء ولا مناسبة – فيما أذكر -.
ولعل من الخير أن نختم هذه الملاحظات بتلك الكلمة الحكيمة التي عقب بها العلامة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة – غفر الله له - على ما عرضه من أشباه تلك المرويات التي
(1/288)
ناقشنا بعضها حيث يقول: "إننا لا يجب علينا دينا وإيمانا أن ندعن لهذه الأخبار وإن كانت من حيث السند صادقة1.. لأن هذه الأمور ليست جزءا مما دعا النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الإيمان به2".
ونحن في مناقشتنا لهذه الأخبار إنما نفعل ذلك حفاظا على منهج السلف في تصفية التاريخ الإسلامي من كل خبر لا يحمل طابع الصحة الحاسمة.. وانطلاقا من هذا الاتجاه نرفع إلى أستاذنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، وإلى معالي أخيه الشيخ محمد علي الحركان، وصاحبي الفضيلة الدكتور عبد الله الزايد، نائب رئيس الجامعة الإسلامية، والدكتور عبد الله التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حفظهم الله وبارك جهودهم، اقتراحا نرجو أن ينال قبولهم، وهو أن يؤلفوا مجمعا خاصا باسم (المجلس الأعلى لتصفية السيرة المطهرة) تكون مهمته أن يقدم للعالم الإسلامي كتابا في السيرة النبوية يقتصر على أصح الأخبار من تاريخ أكرم مختار، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار. وليس ذلك على هممهم العالية وإخلاصهم الكبير بعزيز، إن شاء الله..
وللأخ الفاضل الأستاذ علي الطنطاوي أخيرا وافر الدعاء على ما أثاره من البواعث لإخراج هذا البحث الذي نرجو أن يكون مقبولا عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولله الحمد من قبل ومن بعد.
__________
1 انظر ص 47 ج 1 من كتابه (خاتم النبيين) .
2 انظر ص 47 ج 1 من كتابه (خاتم النبيين) .
(1/289)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق